طبيعة التلفزيون

طبيعة التلفزيون

نقلا عن كتاب/ بُنية المسلسل الدرامي التلفزيوني
تأليف: قيس الزّبيدي


يقوم برنامج التلفزيون على طبيعة تسلسليّة ملازمة لبنيته. إنّ الضرورة اليوميّة التي تتألّف من برامج بث مختلفة، ويمكن أن تتم مشاهدتها أيضا من قِبل كل المشاهدين في وقت واحد، تقود باستمرار إلى تقديم ما هو جديد. كذلك يقود ربط التلفزيون بحياة المتفرّج اليوميّة إلى استخدام طقسي مما يستوجب تقديم خدمة لتوقّعات المُشاهد الدّائمة، التي تنتج من علاقات الحياة والعمل.

أمّا على صعيد البرمجة فتقود الحاجة المستمرّة للتسلية وللمعلومات بشكلٍ دائم إلى تجهيز أوقات بث برامج متسلسلة، يتمّ ملؤها بالطّريقة نفسها. وينشأ عن ذلك، بسرعة نسبيّة، إنتاج برنامج منتظم ومستمر ومتسلسل في الوقت ذاته. إنّ التحوّل إلى الإنتاج المتسلسل ليس تعسّفيًا أبدًا بل أقرب إلى طبيعة التلفزيون، إذ يصبح مبدأ بنية البرنامج هو نفسه مبدأ بنية المنتجات.

إنّ طبيعة البرنامج التسلسليّة تتأسس في بنيته الخاصّة التي طوّرها برنامج التلفزيون منذ نشأته. وقد تمّ فهم التلفزيون كبرنامج مستمرّ وتمّ اعتباره مثل سيل من المتتاليات تقدّم إلى المُشاهد على شكل مسلسل من وحدات تتموضع زمنيًا، لكنّها تنتظم في أنواعها وفي أشكال برامجها وأنماط تقديمها وفق مبادئ دوريّة معيّنة: سيل من المحكي والمقدّم، الذي هو في بنيته الدّوريّة أيضًا متسلسل. ومع توسيع البرنامج تاريخيًا، ازداد عدد النّمط من الإنتاج الذي يتضمّن في بنية إنتاجه ما هو متسلسل من البرامج المنتجة.

وإذا ما عدنا إلى الفكرة التي تعدّ التلفزيون سيل أو جريان حياة، فإنّه يصبح بذلك شبيهًا بالشّكل الملحمي الذي تظهر فيه كليّة الحياة الاجتماعيّة. إنّه مؤسسة سرد حكايات تقوم على عمليّة تربط السّرد بحياة المشاهد اليوميّة، أو أنّه آلة سرد يشكّل فيها المسلسل الجزء الكبير ويأخذ الشّكل المميّز، الذي اكتسب شرعيّته الخاصّة وانتزعها في الممارسة الاتّصاليّة منذ زمن، واستطاع أن يصبح الخاصيّة الأولى في التلفزيون. فمنذ الثمانينات دخل المسلسل مع البرنامج التلفزيوني في وحدة لا تنفصم. وقد أصبحت المسلسلات الطّويلة أو المسلسلات اللانهائيّة تعبّر عن مرحلة تطوّر البرنامج التلفزيوني نفسه تاريخيًا.

ومع تزايد البرامج أخذت ظاهرة القصص والحكايات المسلسلة تصبح أكثر طولا كما أصبحت الحكايات والقصص المسلسلة تنويعا مميزا إلى جانب التنويعات الأخرى. هذا جعل التلفزيون، كوسيط نموذجي، يرافق حياتنا اليوميّة بحضوره الدّائم عن طريق جريانه المستمر عبر برامجه، وهو لا يدخل فقط في شبكة حياة الناس اليومية، إنّما يساهم أيضا في صياغة الحياة نفسها. فالبرامج المختلفة والأحداث التي يبثها تشتبك كعناصر بنائيّة في المجرى الحياتي اليومي والأسبوعي والشهري. ففي ألمانيا مثلا، أصبح يوم الاثنين يوم المسلسلات في القناة الأولى، والثلاثاء يوم (دلاس) كما هو يوم مجلة الأحداث الثقافية والاجتماعيّة، والأربعاء يوم (دنفر كلان) ، والخميس يوم العرض الموسيقي وبرنامج المسابقات، و الجمعة يوم الفلم البوليسي، والسبت يوم الرياضة والمسلسل الألماني الاجتماعي (شارع لندن)، ويبدأ المساء مع نشرة الأخبار، ويذهب الأطفال بعد مشاهدة برامجهم إلى النّوم. وتتناول العائلة عشاءها يوم السبت في التاسعة، أي بعد انتهاء برنامج الرّياضة. وهكذا تجد البرامج التلفزيونية تشكل علامات تلوّن حياة النّاس وتحدد مجراها، حيث تجتمع الملايين في وقت واحد عند جهاز التلفزيون ، وتؤلّف اجتماعيا طائفة تلفزيونية.

إنّ البشر مطوّقون بوسائل الاتصال ودخلوا في عصر جديد، هو عصر الشبكة الفضائية حيث يصنع فيه خيال مجتمع اتصالي كامل، يحتل التلفزيون فيه، كظاهرة ثقافية، الجزء الجوهري. وعلينا هنا أن نتذكّر تلك العبارة البليغة التي أوجزها الكاتبان (كلوكهون) و (كروبة) في كتابهما : (الثقافة – نظرة نقدية للمفاهيم والتعريفات) : "الثقافة هي إنتاج، وهي تحتوي تاريخيا أفكارا ونماذج وقيمًا، وهي انتقائيّة ويمكن أن تتعلّم، كما أنّها تسند إلى رموز هي تجريد سلوك مثلما هي إنتاج لهذا السّلوك" .

ومع تميّز المسلسل كشكل من أشكال البرنامج، إلا أن النظرة التاريخية لا تعد أشكاله الحالية نهاية تطور معطى وغير قابل للتغيير وأنه في ذروة تطوّره، إنّما على العكس من ذلك تجده لم يصل إلى حدود تطوّره أو لم يصل بعد إلى جدار تطوّره الأخير، وأنّه يمكن أن يأخذ باستمرار أشكالا جديدة مختلفة. ولأنّ المسلسل هو أيضا ودومًا سلسلة من وحدات زمنية تأخذ شكل الحلقات المتتابعة المنفردة، يجب تناول الحلقة كوحدة فنية فيه بالتحليل واكتشاف خواصها وطبيعة تركيبها.